أشكال ألوان| لماذا على المجزرة أن تنتهي؟

أشكال ألوان| لماذا على المجزرة أن تنتهي؟

يستطيعُ المتابعُ للشّأنِ العام، ولو من بعيد، أن يلاحظَ بوضوحٍ آثارَ الخرابِ الهائلِ الذي خلّفتهُ سنواتٌ طويلة من مقارعة المجتمعاتِ الشرق أوسطية، ليس للأنظمةِ التي حكمتها وحسب، بل ولنفسِها وأفكارِها وصياغاتِ لغتِها أيضًا، وإن بدرجة أقل.


قبل السنواتِ الأخيرةِ التي باتَ فيها الموتُ حدثًا يوميًا يطغى على كلّ حدث، كانت تلك المجتمعاتُ متفرغةً لصناعةِ حياتِها اليومية بأقلّ درجةٍ ممكنة من المقامرة. بلا أحلامٍ كبيرة، وبلغةٍ بسيطةٍ سلسةٍ لا تُكلّفُ القائلَ أو السامعَ عناء البحث عن مغزاها. وباستثناء حالاتٍ فرديّة، حاولت الرفضَ، والتخلّص من اللغة السائدة، لصالحِ محاولةِ خلقِ لغة خاصة جديدة، فإنّ الستاتيكو اللفظيّ والمكتوب، ظلّ قائمًا حتى بدايات الربيع العربي.


وقد يكونُ من سوء حظّ كتاب هذه المرحلة، أن صودفَ وعاشوا الفترةَ هذه، حيثُ أنّها، مثلُ أي مرحلةٍ انتقاليةٍ في العالم، تتسمُ بأنّها محرقة، ومجرد معبر لمراحل أكثر استقرارًا وأقلّ انفعالا. ذلكَ أنّ بعضًا من هؤلاءِ الكتاب، سيّئي الحظّ، لا يستحقّ الحرق!


لكنّ الحال، أنّ جزءًا من هؤلاء الكتّاب، وعلى الرغمِ من معرفتهِ وإدراكِهِ أنّ الآداب والفنون المرتبطة مشيميًا بحدثٍ ما، وإن كانَ على مستوى ثوراتٍ عظيمة كالتي تشهدها دول الربيع العربي، مصيرُها مرتبطٌ، مشيميًا أيضًا، بمصيرِ الحدثِ نفسه، واستمراريتُها مرهونة باستمراريته، فإنّهُ (أي ذلك البعضُ من الكُتّاب) يستمرُّ في تغذيةِ محرقتهِ بكلتا يديه. فلو طرحنا على الكتّابِ السؤال: لماذا على المجزرة أن تنتهي؟!


فإنهُ قد يُخرجهم عن صمتهم، فتذهبُ خيالاتُهم باتجاه اجتراحِ إجابةٍ مناسبة، فمنهم من سيستخدمُ المجازَ كأن يقول: لأنّ الوردةَ التي تزيّنُ الشرفةَ التي تركناها للغبارِ بدأت تتيبّسُ. أو أن يذهبَ أحدهم أبعدَ فيقول: نسيتُ علاقة المفاتيح على الطاولة، ولا بدّ من استعادتها.


وقد يجيءُ البعضُ بما قالهُ سواهم، فيستعيرونَ من محمود درويش: «لأنّ البيوتَ تموتُ إذا غابَ سكّانُها يا بنيّ».


وبينما يغرقُ واحدٌ باليوميةِ الطبيعيةِ ويختصرُ الأمرَ بأنّ: البشرَ يموتونَ وهذا يكفي لتتوقف المجزرة. فإنّ آخر، سيعتبرُ أنّ على السماء أن تعودَ صافيةً، وعلى الغيومِ ألّا تصيرَ حديدًا قاتلًا. وسيقولُ آخرونَ كلامًا غير مفهومٍ عن رأيهم في ضرورة إيقافِ المجزرة.


وفي حين يبدي الجميعُ آراءهم إزاء الأمر، ينسونَ، أو يتناسونَ أحيانًا، أنهم يشتركونَ جميعًا (وهذه السطورُ وكاتبُها ضمنًا)، لغويًا على الأقل، بمفرداتِ يومِهم: المجازر، الحرب، الثورة، الازمة، الدماءُ، الجرحى، الشهداء، القتلى، الأطفال، النساءُ، الحرائر، الدمارُ... إلى آخره.


قد يخرجُ البعضُ للتصدّي، واعتبارِ الأمرِ انفصالًا عن الواقعِ، أو هروبًا من مواجهةِ الاستحقاقات الوطنية، بل والإنسانيةِ عامةً. وقد يذهبُ آخرون لاعتبارِ هذا تنصّلاً من المسؤولية، ويأسًا قد يفضي إلى عدميّةٍ محتملة. وقد تأخذُ بعضهم الريبة: هل يمكنُ لكاتبِ هذا الشيء، أن يكونَ مع الثورة؟!


أسئلةٌ كثيرة محتملة، ومحقّة مثل أي أسئلة، إذ لا يُمكنُ لسؤالٍ أن يكونَ خاطئًا، تلكَ الخاصيّةُ تمتلكُها الإجابات عادةً لا الأسئلة.


وبما أنّ التساؤلاتِ هذه محتملة، فإنّ الإجابةَ عليها أمرٌ سابقٌ لأوانه. وأجدُ من الأفضلِ لو استطعنا توظيفَ المجازِ قليلًا، وتخيّلنا أننا وُضعنا في خانةِ الاختيارِ بين أن نكونَ يائسينَ محبطينَ ووحيدينَ، ونحاولُ إيجادَ حلول لمشاكلنا الداخلية الصغيرة، قبل التنطّع للقضايا الكبرى، على قاعدةِ أن الميتَ لا يُمكنُ أن يُنقذَ ميتًا. وبين أن ندور مع لغتِنا، حولَ تلك المفرداتِ وذلكَ الخراب، ونقف مثل الذباب على أوصالِ الضحايا المتقطعة.


فما الموقع الذي سنختارُهُ ككتّابٍ في حالة كهذه؟


يبدو الأمرُ شديدَ القسوة، ولكنّهُ يحملُ الجوابَ الأمثلَ على أولِ تساؤلاتِ هذه المادة: لماذا على المجزرة أن تنتهي؟


لأسبابٍ جوهريةٍ كثيرة، من بينِها أنّ على الكتابِ ألا يكونوا ذبابًا يحومُ فوقَ الجثث!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +