أشكال ألوان| حلب

أشكال ألوان| حلب

إنه عيد القديسة Valborg في السويد، عيد يخلو من شبهة دينية، إنما يحتفل السويديون وجزء من الذين يعيشون في هذه البلاد، وهم من أصقاع مختلفة كانت قد تعرضت قبلنا لصنوف من الفاشيات والديكتاتوريات، دينية وعسكرية. وسوفييتية طبعًا، فمن المرجّح أن هذه الأخيرة تعتبر صنفًا لوحدها، يحتفلون جميعًا ببداية الربيع.


تقام في المدن كافة طقوس خاصة لهذا العيد، حيث يخرج الناس بثيابهم الملونة، ويقيمون احتفالات موسيقية وفنية على أكتاف البحيرات، يشربون ويغنون ويرقصون ويطلقون الألعاب النارية، وفي النهاية يشعلون نارًا كبرى وسط ماء البحيرات، كأنما يعلنون بداية الربيع.


وصلنا إلى لينشوبينغ (Linköping) المدينة المتاخمة للمدينة الصغيرة حيث أقيم، والتي تعتبر عاصمة مقاطعة أوسترغوتلاند (Östergötland)، وهي من المدن الرئيسية في السويد. وبالفعل، كانت الشوارع مكتظة، وأصوات الموسيقى منبعثة من كل الأرجاء. استطعنا بمشقة الابتسام في وجوه الناس الملونين بزهوّ، ودخلنا محلات الألبسة، نبحث عن كنزات حمراء، لنلبسها في اليوم التالي في مظاهرة العاصمة ستوكهولم تضامنًا مع حلب، التي يشعل الطاغية النار في بيوتها وسكانها. يحرقها من دون أن يكون هنالك أي مناسبة لبداية الربيع أو نهاية العالم.


على هذا النحو التراجيدي، تبدو العلاقة مشوّهةً بين السوريين وأماكن تواجدهم في العالم هذه الأيام.


**


بين موتالا وستوكهولم حوالي 250 كيلومتراً، في الطريق إلى العاصمة أردد مطلع أغنية من تراث السويداء:


هيـــه يا حاملة الجرّة حطّي عالعين ... هذي الدرب الطويلة بتودّي لوين


بتودّي على حلب آه يا حلب ... وحبّي يقطع بالذهب والصايغ وين؟!


**


نتوقف على الطريق السريع، ندخلُ استراحةً، وأطلب فنجان إسبريسّو ثقيل. يبدو الموظف مبتسمًا، متفاجئًا ربما. نعم يمكن أن تكون سورياً، يرتدي كنزةً حمراء، مكتوبٌ عليها باللون الأبيض #save_Aleppo وتشرب قهوة إسبريسّو... هذه الأمور تحدث في العالم يا صديقي!.


**


غربانٌ سوداء تحوّم على جثّة كلب دهسته سيارة مسرعة، تطير بعيدًا لحظة تقترب سيارتنا منها.


يبدو المشهد مؤذيًا للغاية، لم أكن قد تخيلت سابقًا أن الأكل من لحم الميت مقزز ومنفر إلى هذا الحد. حتى لو كان الميتُ كلباً لا بشريًا، ولو كان السفلةُ غربانًا لا موالين لنظام الأسد!.


**


استجابةً للدعوة التي أطلقها نشطاء مصريون تضامنًا مع حلب وضحاياها، أغلقت حسابي على فايسبوك، وقد كان تواجدي الكثيف على صفحاته الحمراء في الأيام الأخيرة، أشبه برغبة لمشاركة الحزن، أكثر من كونه لمتابعة آخر الأخبار.


وكنت قد قلت إنني اعتدت في سنوات يفاعتي الأولى، حين أذهب مع أبي إلى الجنازات التي تخصّنا، أن أمسكه من ساعده وعضُده أثناء دخولنا لحمل النعش، ليشعر أن يدًا ما تسندُ حزنه.


ها أنا أمشي وحيدًا في سرادق العزاء الأحمر هذا، ولم أنجب ولدًا يمسكني من ساعدي يا أبي...


**


في التظاهرة الضخمة في ساحة (Medborgarplatsen)، اجتمعَتْ، جريًا على العادة، قوىً سياسية، سويدية وغير سويدية، كانت جاليات من جنسيات مختلفة، كلّ وَاحِدَةٍ منها ترفع شعاراتها، حسب أوضاع الحياة في بلدها. يصطفّ الناس جالياتٍ وقوىً سياسية خلف بعضهم بعضًا، وينطلقون في شوارع المدينة، يرافقهم موسيقيون يعزفون طوال المسير. كانت الجالية التي تتقدّمنا من العراق، وكان الحاضرونَ، فضلًا عن كونهم يرددون أغنياتٍ ومقاطع موسيقية من المقامات العراقية المحببة لسمعنا، نحن الذين جئنًا من الشرق الأوسط، فإنهم كانوا يرددون شعاراتٍ تدعمُ مظاهرات ساحة التحرير في بغداد، الشعارات التي تنادي بمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين.


كنتُ أسمعهم وأغصّ، كيف أشرح لكلّ هذه الجموع أن الثورة السورية خرجت لأجل أن نحظى بنصف مشهدٍ كهذا؟!


أتذكر محمود درويش في حالة حصار:


واقفون هنا؛ خالدون هنا


ولنا هدف واحدٌ: أن نكون.


ومن بعده، يجد الفرد متسعًا لاختيار الهدف.


**


منذ أقفلت حساب الفايسبوك، وتلاشت من أمام عينيّ الصور الآتية من سوريا، بدأت أشعر بتراجع الحالة الثأرية التي كانت قد لازمتني طوال الأيام الماضية. منذ لم تعد الصورة مشهدًا يتكرر خمسين مرة في اليوم، ولم أعد أرى صور الناس الذين تنتابني رغبة بالثأر لهم كلما شاهدتهم، بدأت أفكر في كارثة حماة 82. لقد مات عشرات الآلاف ولم يرَ صورهم أحد، من يثأرُ لكلّ هؤلاء غامضي الوجوهِ والمعالم؟!


**


كنت أعلم تمامًا أن مظاهرات اليوم لن تجدي نفعًا مع القرار الدولي، الذي يبيح للأسد وأعوانه انتهاك الدم السوري. ولكنني أعلم أيضًا، أن مشكلة السوريين اليوم لم تعد مع الحكومات والقادة وحسب، بل مع الشعوب أيضًا.


كيف تقنع السوريّ، الذي يرى الشعب الآيسلندي (مثلًا) ينزل إلى الشوارع بسبب وثائق بنما المسربة، فيُسقط رئيس وزرائه، الذي كان متورطاً في الفساد. كيف تقنعه أن الأوروبيين لا يستطيعون التأثير على حكوماتهم؟!


لسبب ما كان صراخي اليوم، محاولةً لإزعاج البشرية بكل ما يختزله موقفها السيء تجاه أناس يموتون يوميًا.


أردت أن أكون مزعجًا، أكثر مما رغبت في التضامن والتعاطف.


**


كنتُ في المظاهرة؛ ارتديتُ كنزتي الحمراء التي اشتريتها مساء أمس، ومشيت مع الناس بجدية مفرطة، وصرخت ضدّ السفاحين والطغاة والفاشيات والديكتاتوريات، ولم أبحث عن المنتصف لأدسّ نفسي فيه كما كنت أفعل في المظاهرات في سوريا تحسبًا لرصاص يأتي من الخلف، ولا يهمّني من سيصيب ما دام لن يصيبني! صرخت حتى بحّ صوتي، ودخلت مع اللذين دخلوا إلى حديقة الملك حيث أشجار الكرز زهريّة بالكامل مع انطلاقة الربيع. ومع اقترابنا من أبوابها اخترقنا صفّين متوازيين من البشر، الذين كانوا على الجانبين يرفعون هواتفهم المحمولة، ويصورون دخولنا الصارخ القويّ. يبتسمون لنا، ويشيرون إلينا بأصابع النصر، هؤلاء الذين صفّقوا طويلًا وَنَحْنُ نمر بينهم، كما لو أننا نحن الشهداء!


 كانوا يصفقون لدخولنا كما لو أننا جثث تتحرّك باتجاه الدخول إلى متحف التاريخ.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +