أشكال ألوان| أيّ قلبٍ سيحتملُ بعد؟!

أشكال ألوان| أيّ قلبٍ سيحتملُ بعد؟!

18 آب 2012


كانت الشمسُ تثقبُ نهارَ السّبت، الرّطوبةُ تخترقُ كلّ مسام الجلد، والشارعُ عريضٌ جدًا، أو هكذا خُيِّل إليّ حينها. أنزَلني السائقُ الذي جاءَ بي من السويداء، قاطعًا الحاجزَ تلوَ الحاجزِ، حتّى الحدود اللبنانيّة من غير أن يوقفني أحد!. أنزلني، على زاويةٍ لتقاطعٍ شارعيّ، وقال إنّ ما عليّ سوى مناداة أيّ من سائقي السرافيس: فرن الشّباك!.


نزلتُ أحملُ حقيبتي الوحيدة، وشكرتُ السائقَ الذي استطاعَ إخراجي من الحدود السوريّة بلا أيّ مشاكل. قلتُ: لقد أنقذني ذلكَ السائقُ من بلادي!. ونفّذتُ تعليماتِهِ بصرامةِ الخائف من الضّياعِ. وبالفعل، أوقفتُ تاكسي وطلبتُ منهُ إيصالي إلى فرن الشّباك حيثُ يعملُ جواد، صديقي الذي سيكونُ أولَ مستقبليّ في المنفى... الذي لم أكن أعرفُ أنهُ منفى آنذاك.


1 حزيران 2005


يدخلُ سمير قصير مطعمًا ليلتقي أصدقاءهُ، يسألونَهُ عن سرِّ إشراقهِ فيجيب: انتصرنا... صرت أعطي سيّارتي للفاليه باركينغ (valet-parking).


تجري جيزيل اتصالها اليوميّ بزوجِها، تسألُهُ عن صوتِهِ المُتعبِ، فيقولُ لها إنّهُ محضُ صداعٍ عاديّ سبّبهُ الشّرابُ في السهرة. ولكنّهُ بشكلٍ مفاجئ يطلبُ منها ألّا تتأخر، فقد اشتاقَها. فتردّ جيزيل إنّها ستكونُ السبت في بيروت.


18 آب 2012


ما زالت الشمسُ تثقبُ نهارَ السبت. أجلسُ مع جواد في السنترال الذي يعملُ فيه، نتحدّث ويهدّئ من روع الأعمى الذي وصلَ توّاً من عتمة سوريا، ليجدَ شمسًا واضحةً مثلُ هذي التي تثقبُ نهار السبت!


أشتري من عندهِ دفاترَ رسائلٍ (إمّا أنني كنتُ أعتقدُ بأنّ الحياةَ ما تزالُ عند الرسائل الورقية، أو أنّهُ استشرافٌ مجازيّ للمآل، المنفى، الذي يعني بُعدًا فَرسائل ورقيّة بالضرورة!) وأقلامًا، وولّاعةً، وأبحثُ عن الجرائد.


ها أنا الآنَ أقبضُ على جريدةِ النهار! الجريدةُ الورقيّةُ الممنوعة عن السوريينَ منذُ أكثرَ من عقدٍ من الزمن، بينَ يديّ الآن! بديكِها الأزرق، وبصورةٍ صغيرةٍ لجبران تويني على الزاويةِ في الأعلى.


لحسنِ الحظّ، فقد كانت دارُ النهارِ توزّعُ في تلك الفترة كتابًا عن غسان تويني في ذكراه الأولى على ما أذكر، يحوي شيئاً من سيرةٍ، واستعراضاً لبعضِ مراحل ومحطات حياته.


يا إلهي، النهار وغسّان تويني بينَ يديّ، أيّ انتصارٍ للحريّة على النظامِ هذا؟!. (أفكّرُ اليوم: أيّ سذاجةٍ كانت تلك!).


2 حزيران 2005


إنها ساعاتُ الفجرِ الأولى في أمريكا، تحاولُ جيزيل الاتصالَ بسمير، لكنّ خطّ هاتفِهِ مغلق، والمجيبُ الآليّ ينوبُ عن زوجِها بالردّ. لا يثيرُ ذلكَ قلقَها، إذ لطالما تتعطلُ خطوط الهاتف الخليويّ إثرَ أيّ انفجارٍ أو طارئ في لبنان. فتتصلُ بالمنزلِ على الهاتف الأرضي، تجيبُها الصبيّةُ التي تعملُ في المنزل، وتحاولُ بصوتها المرتجف طمأنتها عن أولادِها، وحينَ تسألُها جيزيل عن سمير، تجيبُها أنه ذهبَ إلى عملِه، فتطلبُ جيزيل أن تحدّث مروان، ابنَها، وتصرخُ فيهِ مباغتةً، تؤنّبهُ على خروجِهِ من المنزلِ عقبَ كلّ انفجار، فيقاطعها ويسألها إذا ما كانت وحيدة، أم أنّ أحدًا إلى جانبِها. ويخبرُها إنّ السيارةَ التي انفجرت قبل قليل في الأشرفية هي سيارةُ سمير قصير...


ترتجفُ جيزيل، ولكنّها في حركةٍ إنكاريّةٍ أخيرةٍ منها، تحاولُ التهرّب من التصديق، وتسألهُ عمّا إذا كانَ سمير نائمًا أم في مكتبه. فيقولُ لها إنّ سمير كانَ في السيارةِ المنفجرة...


18 آب 2012


يصطحبُني جواد مساءَ ذلك اليوم الذي تأكلُ رطوبتُهُ كلّ المدينة، إلى شارعِ الحمرا.


إنها المرّةُ الأولى التي أرى فيها الشارعَ في حياتي، أيُّ قلبٍ سيحتمل بعد؟!.


في ذلك اليوم، أخذني جواد، وأسامة، وهو صديقٌ آخر كان يعملُ شيفًا في مطعمٍ في شارعِ الحمرا، أخذاني إلى وسط المدينة التجاري، إنهُ الداون تاون، سوليدير! وأمام تلكَ الصروحِ الفارهة التي لا أنتمي لمرتاديها، والواجهاتِ اللامعةِ التي لا أحبّذً عادةً التوقّفَ، حتّى للتّمرئي في زجاجها. أمامَ تلكَ الصروح، في مقدّمتها، وفي الوسط تحديدًا، يرتفعُ البناءُ الأزرقُ الضخم... أنا تحتَ مبنى جريدةِ النهار!


أيّ قلبٍ سيحتملُ بعد؟!


2 حزيران 2005


اغتيال الكاتب والصحفي اللبناني سمير قصير، بانفجارِ عبوةٍ ناسفةٍ زُرِعت في سيارتهِ.


أيّ قلبٍ سيحتملُ بعد؟!


18 آب 2012


تحتَ المبنى، في مدخلِ السوليدير، أقفُ صامتًا تمامًا قبالةَ تمثال سمير قصير، تمثالٌ صُمّمَ على يد الفرنسيّ لوي ديربري، ووضُعَ إلى جانبِ مقرّ عملهِ في جريدة النهار، ليبقى، وإنْ منحوتةً ضخمةً، حيثُ يجبُ أن يبقى، في وسط بيروت!


أتوقّفُ، أتأملُ نفسي من خارجِها، من الأعلى، أجدُ بلادًا مُعتمةً تمامًا، غارقة في حلكةٍ مروّعة. ولا شيء يوضحُ بعضَ معالمِها إلا أضواء الحرائق التي تعمّ أرجاءها.


وعلى الجانبِ الآخر من الصورة، ثمّة شابٌ سوريّ، يبدو أنهُ من بينِ الناجين المُهجّرين، يحملُ بيدهِ كتابًا عن غسّان تويني، ويقفُ أمام تمثال سمير قصير... ويُسرُّ لهُ في أذنيه: أرأيت؟! لقد فعلها السوريونَ كما كنتَ تحلم...


وهاهم، ورغمَ أنّهم يلقونَ المصيرَ ذاته الذي لقيتَهُ أنتَ قبل أعوام، مستمرّونَ، ولكنّهم باتوا يسألون بتعبٍ أكبرَ، مُثقلين بالخسائر، عن ميعادِ الربيعِ الذي يُزهرُ في بيروت، ليُعلن أوانُ الوردِ في دمشق. ألم يحن موعدهُ بعدُ؟!


2 حزيران 2016


قبل خمسة أيامٍ، مرّت الذكرى الرابعة لاستشهاد السينمائيّ السوريّ الشاب باسل شحادة، وهوَ واحدٌ ممن وثّقوا مأساتَنا، ثمّ أصبحوا جزءًا منها.


ماتَ باسل في شارعٍ في حمص. نهشت جسدهُ الشابَ قذيفة فماتَ شهيدًا هو الآخر... وباسل، مثل كثيرين سواهُ، مثّلَ لهم سمير قصير رمزًا من رموزِ الحريّة. ماتَ هؤلاء. وماتَ أكثر منهم بكثير ممن نذرَ سمير حياتهُ لأجلِهم من دونِ أن يعرفوه.


فمتى يحينُ أوانُ الربيع يا سمير


وأيّ قلبٍ سيحتملُ بعد؟!



*المعلومات التي وردت في المقاطع الخاصّة باليومَ الأخير من حياة سمير، مأخوذة من مقابلةٍ أجرتها قناة العربية مع زوجته، الإعلامية جيزيل خوري في برنامج روافد. ومن فيلم كان قد أخرجهُ يحيى جابر عن اليوم الأخير في حياة سمير قصير.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +