أشكال ألوان| الصغير وسذاجة الرجل الأصلع

أشكال ألوان| الصغير وسذاجة الرجل الأصلع

كَثُرَ التعاقدُ مع «سوزكات» لجمع قمامة الشوارع، وهناك من صار يستخدم عدّة دراجات هوائية (بسكليتات) كلما ارتفع سعر ليتر البنزين لنقلها. سابقاً كانت البلدية ترسل سياراتها لجمعها، ولكن وبعد اشتعال الجبهات، وخروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام السوري، ولأن المكبات في الريف الثائر، فإن البلديات نفضت يدها من القصة، وتركتِ الناس يجدون حلاً بأنفسهم. حين تشتد المعارك تتراكم تلال القمامة في الشوارع، وفي أشهر الصيف تجد كل أنواع الزواحف والصراصير والفئران بل والجرابيع، عدا عن الكلاب، وللأسف أيضاً المهمشين؛ جميعهم يلتقون وينغمسون في تلك التلال العامرة؛ كان يأتي إلى منزلي طفلٌ، أخرجه والده من المدرسة ليساعد العائلة في تدبر شؤونها، فيطرق الباب ليأخذ الكيس الوحيد الذي أجمع به «مخلفاتي»، آخرين ينتجون كل يوم عدة أكياس من القمامة! وكلما سألت من الطارق يجيب: الزبالة.


لم يرق لي الأمر أبداً، شعرت بالإهانة، فلماذا لا يقول ضع كيس القمامة خارجاً مثلاً أو أنا عامل القمامة، أو أي كلام أخر فيه احترام لإنسانيته. ولأنني تعلمت إكثار الأسئلة والغلاظة، بحكم مهنتي كمدرس، والذي يشبه رجل الأمن في سورية، قلتُ له: لماذا تقول زبالة؟ لا تعيدها ثانية أبداً، ولا أريد أن أسمعك تقولها لا في البناية التي اقطنها ولا في البناية المجاورة ولا في أي مكان، فنظر لي الصغير مستغرباً حديثي وغضبي، ابتسمَ قليلاً لسذاجتي السخيفة طبعاً، وبعدها قال: نعم. لم أفهم ماذا يعني نعم، ولكنني شعرت بأنني ثأرت للإنسانية في شخصية الطفل، وطبعاً تذكرت كانط ومقولته إن سعادة البشرية لاغيةٌ إن كانت على حساب عذاب طفل واحد. المهم، حاول الطفل جاهداً في ذلك اليوم أن يقول للجيران، ضعوا القمامة خارجاً، ولكنه في اليوم التالي عاد للأمر عينه ولم ينصع لأفكاري العبقرية، وحينما أتى إلى شقتي، قلت له من، قال: ضع القمامة خارجاً، فتحت الباب وقلت له، ولكنك كنت تجيب الجيران بجوابك السابق. لم يعرف كيف يرد على هذا المجنون الاستثنائي والأصلع، ويبهدله، نعم يبهدلني، فما قيمة هذه الكلمة والحياة التي يعيشها أدق رقبة وألعن بمليون مرة... بعد ذلك كان يكرّر جوابه ذاته: زبالة، ولكنني لم أعد أسأله من، بل أخرج كيسي اليتيم حينما اسمع صوته في البناية؛ فلقد غلبني الطفل، واكتشفتُ كم أنني في عالم آخر تماماً.


لم أطرح على الطفل المسكين، أسئلة كثيرة مثل: أين تعيش أسرتك، وكيف تؤمنون حاجاتكم، ولماذا لم ترفض طلب والدك بمساعدته، وماذا تفعل والدتك، وكم أخ لديك؟ رأيت كل ذلك في الشوارع وفي الحارات الهامشية حيث المنازل على العظم، أي فقط باطون ودون أي خدمات كالكهرباء أو الماء، وبلا شبابيك والبرادي نايلون. ففي أماكن القمامة تمر عائلات بأكملها بشكل منتظم لتتدبر يومياتها، كذلك يذهبون إلى محلات الخضار لأخذ قليل منها، وتحديداً التالفة ومن أيام سابقة؛ أصحاب المَحال دائماً يشكون من الفقر المخيف الذي أصبح عليه الناس؛ طبعاً في شوارع دمشق، يمكنك أن ترى عائلات بأكملها على الأرصفة وفي الحدائق النادرة، ومؤخراً بدأنا نرى أطفالاً وشباباً ينامون على الأرصفة وبكثرة؛ وحين أسالُ أصحاب المحلات، وباعتبارهم من أصحاب العقارات الثابتة، لماذا تسمحون بذلك، لماذا لا يتم أخذ هؤلاء إلى مراكز الإيواء، أو أماكن مخصصة، لماذا البلدية لا تتدبر شؤونهم، كانوا يتهربون بطريقة غبية، قائلين إنهم همج، أو متخلفون، أو لا علاقة لنا بهم، غير أنهم يزجرونهم ويوبخونهم بشكل مستمر، ولكن هيهات هيهات، فالفقر أصبح جاثماً ولا بد من طريقة لتدبر الحياة.


في الشوارع التي أسير فيها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، تغيّر الكثير الكثير؛ فتشاهد فتيات صغيرات يعملن بأجسادهن، وبكثرة ملفتة للانتباه؛ وبسؤالي عن هذه المصيبة، كان البعض متجنباً الوضع المأساوي الجديد لأغلبية السوريين، يجيب أن الحي الذي أسكنه آمن وليس من مشكلات فيه، وأغلب تلك الصبايا كن يعملن في مناطق أخرى، والآن انتقلوا منها بسبب تدميرها أو بسبب خوفهم من الجماعات المتشددة، والتي تقتل اللواتي يعملن بهذه المهنة؛ لا أعرف ماذا تعمل عائلة الصبي جامعِ القمامة، ولكنني أعرف جيداً، أن كثرة القمامة في أحيائنا هي سبب حالة الطفل والمهمشين وحالة تلك الصغيرات.


منذ فترة، تأتي فتاة صغيرة وتطرق الباب طالبةً زيتاً أو خبزاً أو ملحاً أو غازاً للطبخ أو حتى ماءً للغسيل؟! لا اعرف كيف أتعامل معها، ففقرها أكثر من أن يخفى؛ وهذا حال البلاد بأكملها، وفي كافة مدن سورية، مدن المعارضة والموالاة. قبل أشهر ارتفع سعر الدولار إلى أكثر من 650 ليرة، ثم خفضه النظام عبر تدخلٍ أمني، ولكنه عاد للارتفاع كما كان. الفقراء أصبحوا أكثر من 88% من السوريين، فكيف يعيش هؤلاء حقاً سيما أن أجورهم بالنقود السورية، أو بلا أي نقود، ما دام النظام يخوض حربه ضد الشعب وبالكاد تتوفر المشاريع الجديدة! طفلي الصغير ليس حالة نادرة، وربما الأصح أن حياة أغلبية السوريين أصبحت على الهامش.


يمتلك كل منّا مئات القصص عن المهمشين والبؤساء في سورية، وأما حديث أهلنا المهجرين فهو الألم عينه، فعدا عن الموت في البحار هناك الفقر والبلاد الجديدة، والعنصرية، والنصب والتحرش الجنسي والتشرد والكآبة والإحباط؛ كل ذلك يقول إن مأساة مخيفة، يعيشها السوريون، والأنكى، أن هناك ما هو أمر وألعن في المستقبل.


لم يخطئ الطفل بجوابه، أما أنا فيبدو أنني منفصل عن عصرٍ يكاد يغرق عميقاً في الزبالة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +