أشكال ألوان| سقوط الطاغية المستتر

أشكال ألوان| سقوط الطاغية المستتر

هنالك ديكتاتورٌ سقط، طاغيةٌ نزقٌ يتأفف ولا يملك جُحفلاً أو حتى جيشاً صغيراً يشفي غليله، هنالك الآن في هذه اللحظة شخصٌ هائم على وجهه، طرده الانقلابيون من قيادة المجتمع، بعد أن كشفت خاصرته الجماهير ولم تمد له يد العون، وحين سأجد فراغاً في الفضاء السوري، مهملاً لا حاجة للناس به، سأكون من الجرأة بحيث أشير بإصبعي إليه، حيث الوحدة والريبة والهزيمة، وسأكون قد أشرت إلى «المثقف».


وإمعاناً مني في دحض حسن النية بيني وبينكم، فإنني لا أقصد بكلامي هذا سوى المثقفين المعارضين للنظام السوري، وهو ليس هجوماً على العمل الفكري للثورة بأي حال من الأحوال، بل إن هذا القلق الذي أستشعره حيال التباس هذه الفكرة، هو السبب الذي أبني عليه مقاربتي بين الديكتاتور والمثقف، فكما يسعى الأول بإيمانٍ راسخٍ إلى الربط بين شخصه والوطن، يسعى الثاني، وبإيمانٍ لا يقل تطرفاً عن المستبدين، في الربط بينه وبين الثقافة.


ويمنح المثقفون أنفسهم قيمة معيارية يُقاس عليها، رافضين اعتبار أنفسهم طبقة مجتمعية «مهددة» بالفحص والتحليل والدراسة، وإننا نظلم المثقفين السوريين عموماً إذ نعتبرهم الوحيدين في هذا الخط، إذ سبق لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، أن كشف الارتباطات السياسية والمجتمعية لهذه الطبقة، وما يترتب على هذه الارتباطات من مصالح ورهانات قد تكون بعيدة كل البعد عن المثاليات التي يطالعوننا فيها على الدوام.


يشترك الديكتاتور والمثقف باعتبار أن صيرورتهما هي قيادة المجتمع، وأن خير هذا المجتمع يكمن في تسليم عنانه لهما، وأن كل حركةٍ لهذا التجمع البشري الكبير يجب أن تكون وقوداً في محرك الطاغوتين. إنه جنون العظمة، وتضخم الأنا وما يرافقه من سوءٍ في تقدير الأحجام والأبعاد، حتى يخال المريض أن أي نأمة، ولو من بعيد، هي انتهاك لوجوده المادي، وبذلك يعاني دوماً من الارتياب بالآخرين، أو ما يعرف علمياً بالبارانويا، وهي آثارٌ تفضح الديكتاتور والمثقف دوناً عن سواهما ضمن هذا البناء السوري المتهالك على نفسه.


البارانوي يتحسس عنقه باستمرار، لذلك يقطع جميع الأيدي من حوله حتى يرتاح، وكما يتهم الديكتاتور كل من عاداه بالخيانة العظمى، يتهم المثقف كل من خالفه الرأي بالقسور والتخلف، دون أن يدري أحد منا السبب الذي يدفع كلاهما إلى الاستمرار في «خدمة» شعبٍ لا يستحق جهودهما.


ويبدو أن هذه العلاقة الوثيقة بين المثقف والديكتاتور تمتد جذورها في أربعين عاماً من حكم النظام بالقوة، حيث سعت السلطة في سوريا إلى تحويل المثقف لأداة إنتاج تجارية، ذلك أن قدرة التواصل مع الجمهور هي قيمة العمل الإبداعي، الذي تقاس عليه درجة النجاح في بلوغ الهدف من عدمه، وهو تحديداً ما سيطر عليه المُروج/ النظام، فارضاً شروطه الرجعية كسمات لأي عمل إبداعي سيكتب له أن يرى النور، وبذلك أصبح المثقف يقاس بعدد أعماله ومقابلاته وسعة شبكة أمانه ومحسوبياته، وتحول رصيده الثقافي من «قيمة» إبداعية حقيقية، إلى كم من العلاقات الملوثة. «الكم» وتصريفه أساس القيمة الثقافية في أذهاننا اليوم.


إن الجمهور اليوم يُسقط «الثقافة» بمعناها هذا ضمن جملة المُقدسات التي فقدت شرعيتها في نظره، وبعد أن كانت الثقافة قيمةً سامية بتنا نشهد هجوماً جهوراً عليها، في الوقت التي تزخر فيه ثورة الرافضين أنفسهم بنشاطات كرّست الأدب العالمي لخدمة أهدافهم، كالعبارات المبخوخة على جدران سراقب، أو المرفوعة على لافتات كفرنبل، وهم أنفسهم باتوا مصورين محترفين ومخرجي أفلام، وخاضوا في كثيرٍ من أنواع الفنون والأدب، دون أن يعوا، في كثير من الأحيان، أن نشاطهم هذا ثقافيٌّ، وبذلك نجد أنه حتى الاستثناء من هذا الادعاء العام الذي أقوم به الآن، يقف على الضفة الأخرى المعادية تماماً لـ«المثقف».


ما أودُّ الإشارة إليه هو أن النظام نجح في تنميط المثقف ودمجه بجسده الفاسد، وإن ما نراه الآن بيننا ليس سوى «كيتش» للثقافة، وتقليد مبتذل لما يجب أن يعنيه المثقف في الواقع، وإنه إذ يشارك الجماهير في رجم الطاغية اليوم، لا يبدو أنه قد أدرك رفضهم للقيادة، بل نجده مصرّاً أن يبدو وكأنه سيد الراجمين.



مرةً أخرى يتفق «المثقف» مع الديكتاتور، ذلك أنه في حين تسعى الثورة لهدم الخلل من جذوره، يسعى كلاهما إلى البناء على أساسات معطوبة.


 لكن في النهاية، كل هذه العشوائيات العمرانية التي ظهرت على جسد الثورة هنا وهناك ستزول لا محالة، بقانونٍ صارم أو بكارثة طبيعية، ذلك أنها هشة وغير مُعدّة للمقاومة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +