أشكال ألوان| تلاميذ في حضرة الحذاء العسكري

أشكال ألوان| تلاميذ في حضرة الحذاء العسكري

في اليوم الأول لي في مدرسة اللغة السويدية، كان عليّ وقد تجاوزت الأربعين من عمري، أن أصاب بالرهبة من فكرة المدرسة، والعودة إلى مقاعد الدراسة التي تركتها منذ عشرين عاماً. حسبت يومها أنني انتهيت من هذا الكابوس اليومي، لكن شيئاً غريباً بدأ يدغدغ مخيلتي، عن تفاصيل المدرسة التي يجب الالتحاق بها. تتداعى الخواطر وتبدأ الأسئلة تنهش تفكيري: ما شكل تحية العلم التي سنؤديها؟ وهل سيكون علم الحزب القائد للدولة والمجتمع هو ما نحييّه؟ أم أنّه علم البلاد الذي تراجع إلى المرتبة الثانية في كل الاهتمامات!


هل سننشد أغنية ذلك الحزب أم نشيد الوطن؟


 مع تزاحم كلّ هذه الخيالات، طرحت سؤالاً على نفسي: هل سيكون لملك البلاد صورة تثير الرعب فينا، وتجعلنا نطاطئ رؤوسنا فزعاً من النظر إليها، خوفاً من اتهامنا بالسخرية من القائد الواحد الأوحد، أبِ كل التلاميذ، وقائدِ كل الفلاحين والعمال وصغار الكسبة!


أعود بذاكرتي إلى شتاء عام 1987 عندما أقرّ مهرجان الطلائع في مدينتي الصغيرة (إدلب)، والتي كانت واحدة من المدن التي اشتعلت في ثمانينيات القرن الماضي، ما جعل لاسمها وقعاً خاصاً لدى النظام الذي كان يرأسه (حافظ الأسد) آنذاك، فالمدينة التي كانت تستعد لاستقبال المهرجان، وتدشّن مبنى المركز الثقافي الذي يتصدّره تمثال لرأس النظام يومها، هي ذاتها المدينة التي لطالما قصّ علينا أهلنا كيف رماه أبناؤها بحذاء وهو على سطح شعبة المدينة لحزبه الحالكم، أثناء لقائه الجماهيري معهم، عندما قرر أن يكون رئيساً أبدياً لسوريا عام 1971. يومها لم يقدّر هؤلاء التعساء أنهم على موعد مع الانتقام الأبدي، كما هو موعدهم مع رئاسته الأبدية!


ولعلّ سوء طالع هذه المدينة المنسية داخل سراديب الزمن، الذي أوقفه الأسد الأب انتقاماً منها، هو ما جعله ينظّم فيها مهرجاناً لـ«طلائع البعث»، ليحرّك هذا الزمن!


 كنت يومها في الصف السادس الابتدائي، عندما جُمعنا بشكل استثنائي في باحة المدرسة لانتقاء المشاركين في الرقصات التراثية أو اللوحات التعبيرية، التي ستقدّم ضمن فعاليات المهرجان، ولأنني لست من أبناء المسؤولين الذين تم اختيارهم لتمثيل فرقة المراسم، والوجه المشرق كآبائهم، أو من أبناء المعلمين لأكون من المتفوقين في مسابقات «رواد الطلائع»، حتى لو لم يكن ابن هذا المعلّم يفقه شيئاً، إذ كان يكفي أن يكون والده أو والدته من المعلمين «المدعومين» ليكون نجماً لامعاً. ولأنني لم أكن فسفوساً، أي «مخبراً» لمعلمة الصف، لأكون «عريف» الصف، أي من يكتب أسماء رفاقه في الصف، انتقاماً منهم في الغالب، كي يعاقبوا على ذنب لم يقترفوه، ثم يتدرّج هذا العريف الحاقد ليكبر شيئاً فشيئاً وتكبر مهامه الجليلة في كتابة التقارير الأمنية، ليسمى حسب الأجهزة الأمنية «درع الوطن». ولأنني طفل عادي جداً لا يحمل أي مقومات سوى أنني أذهب إلى المدرسة لأتعلم القراءة والكتابة، كأي طفل يحلم أن يكون طبيباً أو مهندساً. كان نصيبي في هذا المهرجان ضمن قطيع اللوحات التراثية، التي لا تعني سوى التدجين المسبق، والهتاف بحياة الأب القائد، والرّقص على إيقاعات أغانٍ مشوّهة يكون فيها هذا القائد هو محور الزمان والمكان!


فرحنا وهلّلنا أن الدراسة توقفت، فلا واجبات لكتابتها في المنزل، ولا مذاكرات شفهية أو تحريرية، كان علينا فقط أن نذهب كل يوم إلى الملعب البلدي لنؤدي طقوس الولاء والطاعة، عبر رقصات غبية وطقوس عسكرية، والتهديد بالعقاب لكل من لا يجيد تأدية هذه الرقصات، فهو بذلك يريد أن يخرّب المهرجان الذي يرعاه الأب القائد؛ ذلك الاسم الذي يثير الرعب في نفوس أهالي هؤلاء التلاميذ، فيكون للأهل عقوبات إضافية خوفاً من اعتقال أو انتقام، خاصة أن مدينة حماة التي تبعد نحو 100 كم وخمس سنوات، ما زالت ذكراها حية في ذاكرة أبناء مدينتي الذين امتهنوا الصمت للحفاظ على الحياة!


أخرج من خيالاتي المزعجة، وأجوب بناظري في قاعة الدراسة الجديدة للطالب الأربعيني بألم بالغ. (ماذا لو أننا كنا تلاميذاً بكل معنى الكلمة في مدارسنا تلك؟) عام دراسي كامل يُمزَّق من أجل مهرجان بلا معنى. أتذكر ما كتبه الماغوط في مسرحيته «غربة» على لسان رئيس الجمعية الفلاحية الذي يبررً تعطيل المدرسة للمدرّس، وهو يعدّد العطلات الرسمية، والمسيرات الحزبية، والمهرجانات الخطابية والاحتفالات الرسمية، ثم يغصّ هذا المدرّس من تعطيل الدراسة ليوم واحد. كانت كلّ مدارسنا ترفع شعارها المضحك «البعث طريقنا»، ولكننا لم نكن ندرك أين سينتهي بنا هذا الطريق!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +