أشكال ألوان| مُذكِّرات طالب بعثي

أشكال ألوان| مُذكِّرات طالب بعثي

عندما تسترجعُ لحظاتكَ الأولى، وأنت الصغيرُ ذو الخمس سنوات مزُهّواً بنفسكَ ومُحاطاً برعاية أبويك وهما يرسلانك إلى يومك الدراسي الأول، لابدّ أنّ شعورك سيكون مزيجاً من الحنين/الحقد/الفرح/الخجل/الخذلان، وأشياء أخرى لن تترجمها هذه الكلمات!


في بلاد البعث يدخلُ الأطفال مدارسها في سِنّ السادسة، وهناك بعض الاستثناءات، إذا كنت ابناً لمعلّم أو معلّمة يمكنكَ أن تدخل بسِنِّ أصغر، كذلك إذا بدَت عليكَ أمارات الذكاء باكراً، فيُخضعونكَ لامتحان يُسمّى «سبر المعلومات».


لسببٍ أو لأخر اجتزتُه ودخلتُ المدرسة مُتقدّماً سنةً على أقراني، يبدو أنني كنتُ ذكياً في تلك الأيام. في قرية ريفيّة صغيرة تكون محظوظاً إذا كانت المدرسة جِوار بيتكم، وتكون ذا حظوة أكبر إذا كان أحد مُعلّميها يمتُّ لكَ بصلةٍ أو قرابة نسب، كانت أميّ التي أكملتْ تعليمها الابتدائي شغوفة ًبتعليم أبنائها، وخاصةً ابنها الأكبر والأول، الذي كنت أنا. يومي الأول في المكعبات الاسمنتية التي يعلوها علم سورية ذو الألوان الثلاثة والنجمتين الحمراوين، كان بداية حياة أخرى لطفل سيصبحُ بعثياً جديداً يُضاف إلى آلة تفريخ النُسخِ الآدمية المتشابهة (الطلاب السوريّون)، سبورةٌ خضراء مشققة وصورةٌ لرجل مُتجهِّم تخالُ أن يرنو إليكَ ويلاحقكَ في كلِّ الاتجاهات أينما حَللْتَ وتنقلّت في أرجاء الصف، السيدُ الرئيس قائد المسيرة حافظ الأسد، وبالطبع المعلّم الأول (كنت أظن ببلاهة وببراءة الأطفال، أنّه بالفعل قام بتعليم وتدريس جميع المدرسين الذين يقفون أمام الطلاب في قاعات التدريس).


مُنذ ارتدائك للبدلة الرسمية (الصدرية) ذات اللون «الخاكي»، أو بلغةِ أخرى «البيج»، وهو لونٌ مقاربٌ لبدلات العساكر مع القبعة ذات الحواف المنتظمة والنتوء المثلثي، تكتملُ الهيئة البعثية للطفل السوري، ويصبح جاهزاً للدخول في المدارس، التي كانت الأداة الأولى في زرع الإيديولوجية البعثية وتجذيرها في عقول وسلوكيات الصغار.  الطقسُ الأول الذي تتعلّم من خلاله الإنصات والتقديس للشعارات التي تسمعها لأول مرة، هو الاجتماع الصباحي وتحيّة العلم، وهي حسبَ مُعلّمينا طقوسٌ مقدّسةٌ لا يجب تفويتها أو التحدّث خلالها، بل ترداد العبارات التي صارت جزءاً من حياتنا لست سنوات تالية (اسبل ــــ بعث، استرح ــــ بعث، قائدنا إلى الأبد، وحدة ـــ حرية ــــ اشتراكية، رفيقي الطليعي كن مستعداً لبناء المجتمع الاشتراكي العربي الموحد والدفاع عنه/مستعدٌ دائماً)، وطبعاً دائماً ما يصاحب تحيّة العلم جملة من المواعظ التربويّة من إدارة المدرسة، وضرورة تطبيق تعاليم القيادة وإرشاداتها.


الصفُّ البعثي يحتاج جملة من اللوازم لإكمال ديكوره، كان منها على ما أذكر لوحةٌ مستطيلةٌ الشكل، تُصنع من الورق المقوى وتتضمن واجبات الطليعي التي يجب أن يلتزم بها ليكون طالباً بعثياً صالحاً، ويتمُّ تجليدُ هذه اللوحة وتثبيتها في مكانٍ مناسب من الصف، لتتطلّع إليها الأجيال المتعاقبة، فهي بمثابة دستور الطليعي الذي لا يستطيعُ الحياد عنه.


غسلُ الأدمغة البعثي مُركّزٌ، ويصبحُ شيئاً مع اللاوعي بمرور الأيام. مثلاً تُستخدم الدروس الإضافية كالخط والرسم والموسيقا وغيرها، والتي غالباً ما تكون أنشطة ًلا صفيّة مهمتها الترويح عن الطلبة، في تدبيج المدائح للسلطة ورمزها الأوحد. منذ الصف الأول الابتدائي وحتى الصف السادس، كان المعلمون يعطوننا عبارة ًنكتبها في دفاترنا: «الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر»، طَوال ستّ سنوات كنت أظنها حديثاً من أحاديث الرسول الكريم، وذلك لفرط التعظيم والتقديس للرمز البعثي الأول، ومثل ذلك الكثير الكثير. وبالطبع كان يومُ الثلاثاء يومَ النشاط الطليعي الخاص، الذي كنا نستمتعُ بجزءٍ من نشاطاته الرياضية، وكان مناسبة ًلحشو أذهاننا بقيم الطليعي الصالح الذي سيصبح جندياً لدى دولة المقاومة ضد مؤامرات الاستعمار والامبريالية التي لم نكن ندرك معناها في ذاك الوقت؛ وبمناسبة الحديث هنا عن الامبريالية، الكل يتذكّر ذلك السؤال المعتاد الذي يسأله المعلمون للتلاميذ في الصف: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ في صفنا تنوّعت الإجابات بين طبيب ومهندس ومحامٍ، وعندما جاءني الدور قلت تلقائياً (سفير)، فوجئَ المعلم بهذه الرغبة الغريبة من طالب بعمر السادسة، وسألني هل تعرف ما الذي يجب أن يدرسه المرء كي يصبح سفيراً؟ فإجبته بكل براءة: لا، ولكنيّ بقيت مصرّاً حينها على الإجابة!


السياسية التخريبيّة المُمَنْهَجة لعقول أجيالٍ كاملة، لا تقف في مرحلةٍ دراسية واحدة، فمؤسسات البعث وأطره تتلقفكَ عند إتمام مرحلة دراسية وولوجك الأخرى. قلّةٌ هم الناجون من هذا الخراب الفكري العميم، ومن هذه السياسة الموُجّهة والتي حفرت فينا آثاراً نرجو من هذه السنين أن تمحيها وتزيل ندوبها التي زُرِعَت في أرواحنا وسلوكياتنا. على أي حال، فإنني لا زلتُ أرغب أن أكون سفيراً لدولة اسمها سورية، لا سوريّة الأسد!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +