أشكال ألوان| عذابات نساء المنفى

أشكال ألوان| عذابات نساء المنفى

تشيحُ بوجهها نحو الشفق، تسرحُ بعينين واجمتين خلف الجبال، تحاولُ أن تتحكم بنبرة صوتها المتهدّج فيما ترسل النظر بعيداً في السماء، محلقاً مع الطيور المحلّقة، علّها تحطّ هناك.


تعاود النظر إلى الأرض، تتأمل في الطفلة اللاهية التي تتراكض في الحديقة، تلاحقها الصورة الدفينة في مخيلتها مجدداً: «لولو لا تبتعدي عني، عودي إلى هنا».


تحاول صفاء أن تتابع حديثها، فيما أغوص في مقعدي، خجلاً من النار التي أضرمتها في قلبها، ففي الوقت الذي أحتضنُ طفلي بين يدي، رحتُ أنبش دون مبالاة حرائق الذاكرة التي اشتعلت في رأسها، «هي في مثل عمر هذه الفتاة، اعتدتُ أن أسرّح شعرها بالطريقة نفسها، وأن أجلبها لتلعب هنا، اسمها لمى، لهذا سالت دموعي رغماً عني حين سمعت كلمة لولو».


شعرت بغصة كبيرة، وسيلٍ جارف من إشارات الاستفهام يداهم رأسي، لماذا تتحدث بصيغة الماضي؟ كيف لي أن أحصل على إجابات دون أن أضرم المزيد من الحرائق في قلبها؟


دفعت بطفلي نحو الألعاب، وأجبتها بلا مبالاة شديدة، «الأطفال هم الخاسرون الوحيدون في كل ما يحدث».


عند سماع كلماتي هذه، انفجرت عيناها بالدموع، وراحت تجهش بالبكاء، محاولة أن تنطق بكلمات مفهومة، توصل إليَّ من خلالها الفكرة التي تود إيضاحها، ولكن دون جدوى، لقد بحّ البكاء صوتها تماماً، واختنق، ولم تعد قادرة على استعادة توازنها بعد كل تلك الذكريات المتوحشة. راقبت ملامح وجهها جيداً وهي تَسرَحُ في شعر الطفلة وتسريحتها، تخرج جهاز الهاتف المحمول من جيب ردائها، تفتحه، وتقلب الصور ثم تقربها مني: «ألم أقل لك أنها في مثل عمر هذه الطفلة، وأنني كنت أسرّح شعره بالطريقة نفسها؟!»


تطالعني عبر الهاتف الجوال صورة طفلة في السادسة من عمرها، متورّدة الخدين، وبالفعل فقد كانت تسريحتها تشبه إلى حدّ بعيد تسريحة تلك الطفلة.


تتابع صفاء عرض الصور على الجوال، وقد هدأت ثورتها، لكنها سرعان ما تعود للصوت المختنق: «هذه آخر صورة لي معها، على المعبر، قبل أن يصطحبها جدّها».


أطرقتُ برأسي قليلاً محدّقة بالأرض، علّي أتمكّن من التقاط أنفاسي عند هذه الكلمة، حدّقتُ بطفلي الذي يلعب بالأرجوحة، وعدتُ للتأمل في وجهها، بعد أن تمكّنتُ من خنق الدمعة التي نفرت من عيني، تتابع صفاء التحديق بالأطفال وهم يلعبون، تخرج بعض حبات السكاكر من حقيبتها وتوزعها على بعض الأطفال الذين اعتادوا أن يركضوا إليها، واعتادوا رؤيتها في زياراتها الدائمة للحديقة. تحاول أن ترسم ابتسامة على شفتيها، وتمسح دموعها.


«والد لمى معتقل منذ ثلاثة سنوات، لا أعرف أي شيء عنه، ولا أدري إن كان ما يزال على قيد الحياة، أو أنه...»


أقاطع حديثها، «هو بخير، ثقي بحدسي»


فتجيبني بلهجة حادة: «بعد اعتقاله اضطررت لمغادرة البلد مع والدتي، خوفاً على طفلتي بعد مداهمة المنزل، خاصة بعد أن قضت شقيقتي برصاصة غادرة قبيل عرسها بأيام، لكن أهله أصروا على أخذ الطفلة مني بذريعة أنهم لا يريدون لها أن تعيش خارج البلد، ابنتي اليوم يتيمة الأب والأم!».


صفاء، الشابة التي لما تبلغ الخامسة والعشرين، خبرت كل صنوف القهر باكراً، فوجدت نفسها تختبر الألم الذي لطالما عانته والدتها ذاته، حين كانت مع والدها في المملكة السعودية حيث كان يعمل، بعد انفصاله عن والدتها، كانت مع شقيقتها المرحومة في بلد، وأمهما تتحيّن الفرص أثناء الإجازات لتختلس بعض القبلات من وجنتيهما. اليوم، هي تحلم بقبلة من وجنة لولو، حتى فرصة رؤيتها حيث هي باتت ضرباً من الجنون، وسط كل هذا القتل والدمار واللامنطق الذي يحوطنا من كل جانب.


تعاود صفاء التأمل في الجبل، تتشبّث عيناها بالجهة الأخرى منه، حيث تعيش لولو برفقة جديها، وحيدة، يتيمة.


تتابع: «قبل عام جاء جدها واصطحبها إلى سوريا، قائلاً إنه يريد لها أن تعيش بينهم، فهي ما تبقى له من رائحة ولده، كما أنه لا يعرف ما ستؤول إليه الأحوال، وفيما إذا كان قادراً على العودة لرؤيتها مجدّداً!».


أتابعُ النظر في وجهها، محاوِلةً أن أكون بلا ملامح، ألاّ أظهر أي معالم أو ارتكاسات، لعلها تستعيد شيئاً من سكينتها.


فيما عينها لا تحيد سنتيمتراً واحداً عن وجه الطفلة، كما لو أنها مقتنعة تماماً بأن هذه الطفلة هي لمى، وأن عليها أن تراقبها طوال الوقت فيما تلعب!


أتابعُ تفاصيل العروق النافرة في رأسها، الوجه المكفهر، اليدان اللتان تتشبثان بالثوب، أو تعبثان بالحقيبة، في محاولة لتهدئة الرَّوع، أنصتُ إلى الصوت المنقطع المتهدّج دون وعي لتفاصيل الكلمات، كنتُ أحدّق في وجوه الأطفال الوادعة، أتخيل الصور المرعبة والعذابات التي تخبئها جدران بيوتهم، أتخيلهم يخرجون من تحت الأنقاض، أو هاربون من مكان غابت تفاصيله بفعل الانفجار.


أرقبُ الأمهات اللواتي يجلسن على كراسي الحديقة، ثمة فارق كبير بين الأمهات التركيات وهن يسرّحن شعر أبنائهن ويلعبن معهم، فيما السوريات يجلسن واجمات على الكراسي، يرقبن الأطفال وعيونهن تحدّق في المدى البعيد.


إلى أن انتبهتُ لصوتها، وهي تقول «لم أعد أعرف أين ابنتي، سمعت من صديقتي أن عمها اصطحبها في رحلة عبر مراكب الموت إلى أوروبا، وآخرون قالوا أنها برفقة جدّيها تقيم في إحدى المدن التركية، اليوم أنا غير قادرة على إثبات أنني أرملة، ولا قادرة على الحصول على حكم بالطلاق، أنا زوجة وأم على الورق، أما هنا فأنا رقم لواحدة من النساء اللواتي حملن عذاباتهن على ظهورهن وعبرن الحدود!».


تنهض من المقعد متثاقلة، تشيح بعينيها عني، تستأذن لإعداد الطعام قبل عودة والدتها، تمشي وهي تتابع بنظرها الطفلة الصغيرة وهي تهرع إلى حضن والدتها بعد أن ضربها أحد الأطفال، حتى تغيب وسط زحام السيارات، أصطحبُ ولدي عائدةً إلى المنزل وأنا أتأمل وجوه الأطفال، وأتخيل الحوارات التي تدور خلف جدران البيوت التي تؤويهم!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +