أشكال ألوان| الليلة عيد!

أشكال ألوان| الليلة عيد!

عند الحلاق السوري، وفي غرفة اقتطعت من منزل السكن في حارة عشوائية، والمجهزة بأريكتين باليتين، ومرآة مع كرسي، هي لوازم الحلاقة، يجلس رجل سوري، يبدو عليه التعب والإرهاق، فيما الحلاق يحلق رأس أحد الأطفال.


وبعد تبادل الأحاديث، التي غلب عليها النقاش حول متاعب الحياة في تركيا، والأعباء المادية، يقول الرجل للحلاق: «أرسلت لك الأطفال الثلاثة، اليوم عيد، دعهم يفرحون بالحلاقة!».


يحتج الحلاق: «ولكنني عانيت في حلاقة شعر اثنين منهم، كان مضروباً بسبب الحلاقة السيئة بالماكينة، واستغرق إصلاح الحلاقة جهداً كبيراً»، فيضحك الأب، ويقول: «كانت نتائج ولدي الأكبر جيدة في الامتحان فكافأته بالحلاقة عندك، أما الاثنين الآخرين فعاقبتهما وحلقت لهما بالماكينة على الصفر!».


أصابتني الدهشة حين سمعت الحوار، هل حقاً بات الذهاب إلى الحلاق طقساً احتفالياً؟!..


تعود بي الذاكرة إلى أيام وقفة العيد في سوريا، إلى مدينتي الصغيرة التي برغم صغر حجمها، كان لها قلب كبير يحتضن كل أبنائها ويمنحهم فرصة الفرح بالعيد، فرمضان كريم.


إلى الشرفات التي تنسكب منها المياه على الشوارع، في حملة «التعزيل» التي تسبق العيد، حيث ترى النساء قبل أسبوع منهمكات في تنظيف الجدران وشطف الأراضي، ضمن كرنفال حقيقي للنظافة.


يشغل الحلاق أغنية «ياليلة العيد آنستينا» على هاتفه المحمول، فينقل سوريا وأسواقها، إلى تلك الغرفة الصغيرة البائسة المقتطعة من منزله.


تتدفق الذكريات ويبدأ الحلبي يتحدّث عن طقوس العيد في حلب. النساء اللواتي لا يغادرن أسواق التلل والعزيزية منذ ليلة القدر وحتى صباح العيد، الرجال الذين كانوا يقضون الأسبوع الأخير من رمضان على الوجبات الجاهزة، أو مما تيسر من أطباق البيت في أواخر رمضان، بعد أن افتتحوه بالوجبات «الملوكية» من كبب ومحاشي وما لذ وما طاب من الأطعمة.


«كل هذه الجولات وتأتي زوجتك في يوم الوقفة لتقول لك أنها لم تشتر ثياباً للطفل الصغير». يضحك الرجل: «كم كنا نتذمّر من طلباتهن التي لا تنتهي. اليوم، أدفع عمري مقابل جولة في تلك الأسواق قبل العيد!».


في تداعيات متتالية، أجد نفسي تلقائياً أستحضر روائح كعك العيد، المنبعثة من المطابخ، ذلك الطقس الذي لا يغيب عن أي من بيوت السوريين، مهما انخفض دخل الأسرة، فللعيد مستحقات لا ينبغي التفريط بها، هو موسم للفرح يأتي مرتين كل عام، تعرّج الذاكرة بي إلى حكايا البيوت صباح العيد، والخلافات حول فطور اليوم الأول منه، ذلك الواجب الذي كان يخلق دائماً حالة شقاق في الأسر، فبعد الاستيقاظ باكراً لوضع الزهور على قبور الموتى عقب صلاة العيد، يأتي دور «فطور العيد» ذلك التقليد الذي حافظ عليه معظم أهالي إدلب، فيما حوّله البعض إلى «غداء». ولكن الثابت في الأمر أنها وليمة يدعى إليها كل الأبناء والأحفاد في بيت الأهل، ولا مبرّر للغياب، فالشبان يجدون أنفسهم مضطرين لإرجاء مشاريع العيد الكثيرة، بما يتوافق وتعليمات الجدّ أو الجدّة الصارمة.


فيما تجد «الكنات» أنفسهنّ مجبرات للرضوخ والاستيقاظ باكراً بعد جولات الأسواق وحفلات التنظيف في صباح العيد، وهن مضطرات أمام هذا الواجب العائلي للتغاضي عن الكثير مما لا يروقهن، فاليوم عيد!.


أفتقد كلّ تلك الذكريات، فالبيوت التي كان سقفها يجمعنا صباح العيد لم تعد قادرة على احتوائنا، إلا إذا توسعت جغرافياً وامتدت لتشمل القارات الخمس، وحتى لو اجتمعنا، فجميعها باتت بلا أسقف، وجدرانها المهدمة لم تعد بحاجة للتنظيف، أضحك في سري، «ترى لو عادت الجدران والأسقف، هل نحن قادرون على أن نجتمع!»


الموت نهش جزءاً من ذاكرتنا، فيما جمّدنا القسم الآخر لأنه لم يعد ضرورياً، أما ما تبقى منها فهو كفيل بجعلك ترفض فكرة العودة إلى ذلك السقف أصلاً!.


ينتهي الحلاق من أولادي، هي ليلة العيد، ولكنه عيد لا روائح نظافة تنبعث منه، ولا روائح كعك ومعايدات من الشرفات.


أسير خارجة من الحارة العشوائية، أبحث عن تفصيل واحد من تفاصيل العيد حاضراً معي في غربتي، فلا أجد!


أشعر فجأة بتأنيب الضمير، فما عسى من هم داخل سوريا يقولون؟!


أمشي وأنا أصطحب أطفالي الثلاثة، يحدثني أكبرهم عن ذكرياته عن العيد في سوريا التي غادرها وهو ابن ست سنوات، ليخترع الأصغر ذكريات لم يعشها أصلاً، لأنه كان في الثالثة، فيما أصغرهم يستمع في حالة من الدهشة، فخلال الأشهر الثمانية التي عاشها في سوريا، لم يحضر ما يمكن تسميته بالعيد!.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +