مقالي الأول

مقالي الأول


هو مقالي الأول، لا بُدَّ أن يكون باهراً، جامعاً، مانعاً.


لا بُدَّ أن أناقش فيه كل القضايا بعمقٍ لم يصله أحدٌ من قبل، فقد سَئِمَ القرّاء -إن كان ثمّة قرّاء- من التحليلات السطحية والأفكار العابرة والتوصيفات المكررة والقوالب الجاهزة والنظريات المُجتَرّة.


بدايةً لا بد من تحديد المدى الذي يجب أن يُغطيَّه المقال، ما بين القضايا العالمية، والقارّية، والشرق أوسطية، أو المحلّية وهذا آخر الاحتمالات، إذ لا بُدَّ لأول مقالٍ أن يكون ذا صدىً واسع الطيف، مُلفتاً لأوسع شريحة من القرّاء – مرّةً أخرى: إن وجِدوا– ويرتقي بالفكرة إلى العالمية، فهمومُ البشر أكبرُ من قضايا صغيرةٍ عابرة. كما أنني يجب أن أضعَ في الاعتبار أيضاً احتمال أن تتم ترجمة المقال إلى عدة لغات، وهذا يُحتِّم عليّ الكتابة في قضايا عالمية، فالإنسان هو غايتي وهو منطلقي وهدفي و... يا للهول كأني تبعثنتُ فجاة؟؟؟


بعد تحديد المدى – المجدي- لا بُدَّ من تحديد الهدف، ليكون المقال: أسفلَ ومنتصفَ الهدف.


هل أكتب عن أزمة الشعر؟ المسرح؟ الغذاء؟ الماء؟ الأخلاق؟ السلاح؟ أم عن ذلك الثقب الذي «يدلف» من سطح السماء بعد أن ثقبه أحد المجانين بـ«سيخ» كبابٍ ما زال الجدل قائماً حول جنسيته – للسيخ – أهو ديري أم حلبي؟


لا أريد الخوض في قضايا إشكالية كهذه، لأنني سأفقد شعبيتي بين فئاتٍ واسعة من القُرَّاء –مرّةً ثالثة: إن وجدوا– لا بد من اختيار موضوعٍ يعني الجميع، ويعرفه الجميع، والجميع متفقٌ على خطورته، وعلى الحلول التي سأطرحها في مقالي الأول الهام.


ربما سأبدأ خطوتي الأولى ببحث ما في الموسيقى، الموسيقى نعم، فهي لغة العالم، وليس هناك خلافاتٌ عميقة بين شرائح القراء –للمرّة الرابعة: إن وجدوا– حول أهمية هذا الموضوع. العالم كله غرباً وشرقاً يَعِي ويدرك أهمية الموسيقى ودورها المؤثر في تهدئة الأرواح وتواصل البشر، ولكن: ألن يغضب السلفيون من موسيقا الصوفيين؟ ألن يعاديني المتعصبون للموسيقى الشرقية إن بحثت في موسيقى الغرب؟ وهل سيغفر لي مثقفوا الموسيقى الغربية إن استرسلت في الحديث عن المقامات الشرقية؟ أيّ حماقةٍ كنتُ سأرتكبها لو كتبت عن الموسيقى.


لِمَ لا أكتب عن الأزياء؟ لا لا، أريدُ موضوعاً عميقاً لا خلافَ عليه.


عن البيئة، أجل عن البيئة، لا أحد يكره البيئة، والمشاكل واضحة، والأسباب واضحة، والحلول واضحة. لأكتب عن البيئة إذن، وليكن مقالي هادراً يضع النقاط على الحروف ولا يجامل أحداً ولا جهةً، عِدائياً لطيفاً عامّاً تخصصياً، ليكن مثل كلام «غاندي»، أو ما يُنسَب لغاندي، يُعجِب الجميع إلا الأشرار، ويبدو أنّي مضطر لخسارةِ شريحة الأشرار من القراء –مجدداً ، فقد مللتُ العدّ: إن وجدوا-. ولكن، لحظة يا إلهي: أكتب عن البيئة وسط هذا الموت؟؟ سيجلدني ألفُ ناقدٍ وناقد، ألوف البشر تموت حول العالم، والنزاعات تمزق الشعوب، وأنا مترفٌ لدرجة الكتابة عن البيئة؟ لا لا، لن أبدأ مسيرتي الناجحة بهفوةٍ قد تودي بها.


ربما سأكتب عن السلاح، سينزعج المسلحون. لأكتب عن أوهام السلمية، سينزعج السلمييون. عن الأديان، سينزعج المؤمنون. عن الرياضة، سينزعج الشعراء. عن الطبخ، سينزعج الجائعون. عن الجوع، سينزعج الأثرياء. عن المال، سينزعج المصرفيون. عن التبغ، سينزعج الأطباء. عن الطب، سينزعج المرضى.


أوف.. المسألة أعقد مما توقعت بكثير، حقاً إنها مهنة المتاعب.


وجدتها..


سأكتب مقدمةً مختصرةً حاسمة: «لم يعد خافياً على أحد..»، وأنهي المقال بتوقيعي، وهكذا سيحبني جميع القرّاء –إن وجدوا طبعاً–، وسيقرأ كلّ واحدٍ ما لم يعدْ خافياً عليه كما يشاء، وأُصبحُ أنا صاحب أهم مقالٍ في العالم.. نعم: لم يعدْ خافياً على أحد.. وكفى.


هكذا سأبدأ نجاحي في مقالي الأول.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +